أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
هَبْ أن (بيت المَقْدِس) كان في بلاد (غامد)، كما زعم مؤلِّف «العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود»، وأن (الشام) في جبال (السَّرَوات)، فأين يقع (ضَجْنَان)، الوارد في حديث الإسراء؟ وأين تقع (البيضاء)، أو (ثنيَّة التنعيم)؟ المكانان اللذان ذُكِرا في نبأ الإسراء، وحُكِي عن النبي أنه مَرَّ بقافلتين لديهما؟(1) إنهما مكانان معروفان شمال (مكَّة)، على طريق قوافل (الشام)، ما تزحزحا بعد من مكانيهما كي تستقيم أباطيل المبطلين. فضَجْنَان: بشَمال مكَّة، على مسافة 54 كيلًا على طريق (المدينة المنوَّرة)، وهو حَرَّة، تُعرف اليوم بـ(حَرَّة المُحْسِنيَّة).(2) وربما ذُكِر ضَجْنَان قديمًا بلفظ «الضَّجَن»، كما في بيت الشاعر (ابن مُقبل) (3):
في نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي دَهْيٍ مُصَعِّدَةٍ
ومِنْ قَنَانٍ تَؤُمُّ السَّيْرَ لِلضَّجَنِ
والبيضاء: ثنيَّة على طريق المدينة المنوَّرة أيضًا، فيها مسجد اسمه (مسجد عائشة)، ويُسمَّى المكان اليوم: (العُمْرة)، أو (عُمْرة التنعيم)؛ لأن الناس يُحرِمون بالعُمْرة منه. ولا تُعرف الثنيَّة اليوم باسم البيضاء. والتنعيم: وادٍ يمتدّ من ثنيَّة (البيضاء - العُمرة) نحو الشَّمال.(4)
فإلى أين اتّجهَ طريق الإسراء، إذن؟ إلى جهة الجِعِرَّانة، فالطائف؟ أم إلى جهة السروات؟ أم إلى جهة الشام؟
ولقد كان اسم (أورشليم) أو (بيت المَقْدِس) في فلسطين معروفًا باسمه هذا لدى العرب قبل الإسلام، وبعد، كما رأينا في مقالات سابقة. ونحن نقف على الإشارة إلى «بيت المَقْدِس» لدى قدماء المؤلِّفين، بخلاف ما زعم الزاعمون من المعاصرين. ومن أولئك المؤلِّفين (أبو عبيد القاسم بن سلّام، -224هـ)، الذي أورد في كتابه «كتاب الأمثال» (5): «ومن التصديق حديث أبي بكر، رحمه الله، حين قالت له (قُرَيش): «هذا صاحبُك يُخبِر أنه سَرَى في ليلةٍ إلى بيت المَقْدِس وانصَرَف»، فقال: «إنْ كان قاله، فقد صَدَق؛ فسُمِّي بذلك (الصِّدِّيق)». «وكذا في كُتب (الجاحظ، - 255هـ) المتعدِّدة، وكُتب (ابن قتيبة، -276هـ)، وغيرهما.. وممّا ذكره الأخير أن العرب كانوا يسمُّون بلاد الشام: «ذات الإله». ما يدلّ على نظرة التقديس إليها لدى العرب منذ ما قبل الإسلام؛ قال: «لأنها مقدَّسة، ويقال بيت المَقْدِس؛ لأنه موضع الأنبياء».(6) وأورد في ذلك قول الشاعر الجاهلي (النابغة الذبياني)(7):
مَحَلَّتـُهُمْ (ذاتُ الإِلَهِ) ودِينُهُمْ
قَوِيْمٌ فَما يَرْجُوْنَ غَيرَ العَواقِبِ
كما أورد في «عيون الأخبار» حكاية شجرة الخرّوبة، التي جاء في المأثور الشعبي أنها قالت لسليمان: «أنا الخرّوبة. فقال سليمان: الآن نعيتِ إليّ نفسي وأُذن في خراب بيت المَقْدِس». وكذا أن البيوت المقدَّسة لدى العرب وغيرهم: «بَكَّة، وإيلياء، ومن إيلياء بيت المَقْدِس». وأن عُزيرًا كان يدعو ربه: «اللهَم فإن لك من كلِّ خَلْقٍ خلقتَه خِيْرَةً اخترتها، وإنك اخترتَ من... البيوت بيتَ إيلياء، ومن إيلياءَ بيتَ المقدِس».
فهذا تراث ممتدّ، لدى العرب وغير العرب، لدى المسلمين وأهل الكتاب، من تقديس تلك الأرض، واتّخاذ أسمائها الراسخة رموزًا في الذاكرة الإنسانيَّة. مَن حاولَ شطبها، أو شطب دلالتها، فقد حاول شطب عقله وذاكرته التاريخيَّة.
أوليس من سُخرية التاريخ أن يجد الباحث نفسه مضطرًّا إلى إثبات مثل هذه البدهيَّات؟! أجل، ولكن لا بُدّ ممّا ليس منه بُدٌّ في مواجهة غُثاء من التشغيبات المستحمقة لبعض العقول. وربما كان إثبات البدهيّات أعسر من إثبات المُشكِلات؛ لأنك حين تصل إلى درجة الاضطرار إلى إثبات البدهيّات تكون في مواجهة أذهان لم يعُد يصحّ فيها شيء؛ فتكون عندئذٍ كمن كُتِب عليه، قبل البرهنة، استبدال عقول بعقول، لو استطاع، وهيهات!
وأبعدُ ممَّا سبق، فإن ادِّعاء أن التعبير بـ«المسجد الأقصَى» لم يُستعمل إشارةً إلى (بيت المَقْدِس) إلّا في زمن متأخر من الإسلام، وبعد أن شَيَّد المسجدَ هناك (عبد الملك بن مروان، -86هـ= 705م)، وإرداف ذلك بالتماس معنى آخر «للمسجد الأقصَى» المذكور في «سورة الإسراء»، وإحالته إلى موطنٍ آخر، كلّ ذلكم محض هذيان جريء على انتهاك العقل والنقل في آن. وهو هذيان ينطلق - إلى أغراضه غير الخافية - من جهلٍ بتراث التداول اللساني والأدبي قبل بناء (عبد الملك بن مروان) المسجدَ في بيت المَقْدِس، داخل الساحة المعروفة بالمسجد الأقصَى. ذلك التراث الدالّ على إطلاق «المسجد الأقصَى» على مسجد بيت المَقْدِس، وأنه ليس بتعبيرٍ انفرد به القرآن المجيد، ولا كان غائبًا عن الأذهان إبّان نزول آيات الإسراء، وأن تلك الآيات إنما تشير إلى مكانه المعلوم في (فلسطين). من ذلك قول الشاعر (زياد بن حنظلة التميمي، عاصرَ الرسول وأبا بكر وعُمَر):
ونحن تركنا (أرطبونَ) مطرَّدًا
إلى (المسجدِ الأقصَى) وفيه حُسُورُ
عشيَّةَ (أجنادينَ) لمَّا تتابعوا
وقامتْ عليهم بالعَراءِ نُسُورُ(8)
وزياد بن حنظلة هذا: شاعر فارس، معدود من الصحابة، شارك في قتال المرتدّين في عهد (أبي بكر الصديق)، ثمَّ في المعارك التي دارت بين المسلمين والروم في بلاد الشام، مثل (أجنادين)، من ناحية (فلسطين)، كما يشير في أبياته.(9) وليس القارئ في حاجةٍ إلى معرفة متى عاش هذا الشاعر، فيكفيه أن يُدرك أنه يشير إلى أحداث وقعت في السنة الثالثة عشرة من الهجرة، قبل وفاة (أبي بكر الصديق). وها هو ذا يذكر «المسجد الأقصَى»، ويحدِّد مكانه، بما لا يدع مجالًا للشك. أفيأتيك بعد هذا من يهرف بأن «المسجد الأقصَى» لم يُستعمل إشارة إلى (بيت المَقْدِس) إلّا بعد أن شَيَّد المسجدَ هناك (عبدُ الملك بن مروان)؟!
ومثل ذلك نجد في شِعر شعراء آخرين، مثل (عمر بن أبي ربيعة، 23- 93هـ= 643- 711م)، المخضرم بين صدر الإسلام والعصر الأموي، كقوله:
والمَسْجِدِ الأَقْصَى المُبارَكِ حَولَـهُ
والطُّوْرِ، حَلْفَةَ صادِقٍ لَمْ يَأثَمِ(10)
وفي الإشارة إلى «الطُّور» قرينة سياقيَّة دالّة على «المسجد الأقصَى» المقصود، وأن الدلالة المكانيَّة القارّة في الأذهان لـ«المسجد الأقصَى» خلال ذلك الرعيل الأوَّل كانت لا تنصرف حين يُطلَق الاسم إلّا إلى مكانه المعهود في فلسطين.
كما جاءت الإشارة إلى «المسجد الأقصَى»، بلفظه، في الحديث النبوي الصحيح، الوارد في «صحيح البخاري» و«صحيح مسلم» وغيرهما: «لا تُشَدّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، صلَّى الله عليه وسلَّم، ومسجد الأقصَى». كما جاء في «باب فضل الصلاة في مسجد مكّة والمدينة»، من «صحيح البخاري»(11). وفيه، من «باب مسجد بيت المَقْدِس»: «...مسجد الحرام، ومسجد الأقصَى، ومسجدي».(12) في حين يرى (أحمد داوود)، حسب مقتضى ما تجشّم من مزاعم، مشروعيّة أن تُشدّ الرحال إلى مكانٍ مجهولٍ في سراة غامد، فثمّة مسجد أقصاه الخاص!
أمّا الحديث الوارد في «صحيح البُخاري» (13): «حدَّثنا موسى بن إسماعيل: حدَّثنا عبد الواحد: حدَّثنا الأعمش: حدَّثنا إبراهيم التَّيمي، عن أبيه، قال: سمعت أبا ذرٍّ، رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسول الله، أيّ مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال: (المسجد الحرام). قال: قلتُ: ثمَّ أيّ؟ قال: (المسجد الأقصَى). قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: (أربعون سنة)»، أمّا هذا الحديث، فلا ريب أنه نصٌّ ماحق محقًا لائتفاك مَن زعمَ أن المسجد الأقصى مسجدٌ إسلاميٌّ من مساجد الجزيرة العربيَّة، وأنه في (الجِعِرّانة)، مثلًا، أو في غير الجِعِرّانة! اللهم إلّا لو أخذ صاحب هذه الفكاهة التاريخيَّة بتمهيدٍ أوغل في الادّعاء، كذلك الذي ذهب إليه داوود من أن (أورشليم)، بقضّها وقضيضها وتاريخها العتيق، تقع في بلاد غامد، أو ذلك الذي ذهب إليه قبله (كمال الصليبي) من أن أورشليم كانت في (النماص)! ذلك أن أرباب الادّعاءات كُثر، غير أن فِطَنهم متفاوتة في التأتِّـي إلى ما يدَّعون.
** ** **
(1) انظر: ابن هشام، (1955)، السيرة النبويَّة، تحقيق: مصطفى السقا؛ إبراهيم الإبياري؛ عبد الحفيظ شلبي (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي)، 1: 402- 403.
(2) انظر: البلادي، عاتق بن غيث، (1982)، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبويَّة، (مكَّة: دار مكَّة)، 183؛ م.ن، (1980)، معالم مكَّة التاريخيَّة والأثريَّة، (مكَّة: دار مكَّة)، 159- 160.
(3) (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن (دمشق: مديرية إحياء التراث القديم)، 305/ 16. وانظر دراستنا في شِعر ابن مُقبل: (الفَيْفي، عبد الله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مقبل: قلق الخضرمة بين الجاهلي والإسلامي - دراسة تحليليَّة نقديَّة، (جازان: النادي الأدبي)، 1: 257- 258).
(4) انظر: البلادي، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبويَّة، 54- 55.
(5) (1980)، تحقيق: محمّد قطامش (دمشق: دار المأمون للتراث)، 50.
(6) ابن قتيبة، (1368هـ)، كتاب المعاني الكبير في أبيات المعاني، صحَّحه: المستشرق سالم الكَرنوكي (حيدرآباد الدكن - الهند: مجلس دائرة المعارف العثمانيَّة)، 549.
(7) (1985)، ديوانه، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 47/ 24.
(8) انظر: الحموي، معجم البلدان، (أجنادين).
(9) انظر: الطبري، (1967)، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 3: 187، 602، 4: 138- 139، 156، 445، 448.
(10) (1960)، شرح ديوان عُمر بن أبي ربيعة المخزومي، شرح: محمَّد محيي الدِّين عبد الحميد (القاهرة: مطبعة السعادة)، 230.
(11) (1993)، صحيح البخاري، عناية: مصطفى ديب البُغا (دمشق - بيروت: دار ابن كثير - اليمامة)، 2: 392 [الحديث 1132]. وا نظر: مسلم، (2006)، صحيح مُسلم، عناية: أبو قتيبة نظر محمَّد الفارياني (الرِّياض: دار طيبة)، 1: 609 [الحديث 827]. (12) البخاري، 2: 400 [الحديث 1139].
(13) 3: 1231- 1232 [الحديث 3186]. وقارن: مسلم، صحيح مسلم، 1: 236 [الحديث 520].